دقت طبول الرحيل, و حان موعد السفر, تلألأت الدموع فى عيون مرتجفة,اصطفت التسع بنات لتوديعها , سار موكب الوداع بفرحته الحزينة الممزوجة نأغنية ( حاجة يا حاجة يا ام شال قطيفة.................). فقد آن للست فاطمة أن تتوج رحلتها الدنيوية برحلة طالما دعت الله أن يهبها زيارة قبر المصطفى- صلى الله عليه وسلم- لم تقنت برهة من رحمة الله رغم تجاوزها الأربعين خريفا بخريفين.
وسط عبارات الوداع يأتى صوت الحاجة عائشة - ابنتها الكبرى- والتى ما تركتها منذ أسبوع أو يزيد, حيث تركت منزلها بغية البقاء بجوار أمها حتى موعد السفر بغرض مساعدتها. فلقد كان هدفها الأول هو نصح الأم وارشادها كصاحبة تجربة سابقة فى آداء العمرة,و لحاجة فى نفس الحاجة عائشة تقضيها أخذت دور المعلم البارع فى شرح وتفسير دروسه:- أما عندما تصلين مكة ...تقاطعها الست فاطمة كمن أدركت ما يدور بخلدها:- لقد سمعت هذا ألف مرة.
تقول الست فاطمة ذلك وسط ابتسامات و ضحكات بناتها,فتشعر الحاجة عائشة بشئ بسيط من الاحراج تعودت عليه وعرفت كيف تعالجه بابتسامة صفراء خفيفة, لكنها ما تلبث أن تستعيد ثقتها و ثقلها الوجودى بين اخواتها التى تكبرهن ولا بد من أخذ راية الزعامة ورتبة القيادة فتواصل:-اتصلت بابنى هناك وسوف يكون بانتظارك فهو يعرف المكان جيدا وسوف يساعدك , ترد الست فاطمة بضجر يوشك على الانفجار:- قلت لك مرارا وتكرارا أنى مع مجموعة يرأسها مشرف ولن نتحرك بدونه,
ينتبه الجميع لصوت السائق القادم من خلف الضحكات المتعالية تفشيا و نكاية فى القائد البارع:- أسرعى يا حاجة فاطمة . اعملى معروف , سوف نتأخر الله لا يسيئك .تضع قبلتها على وجنة كل بنت من بناتها, تغلف القبلة بمعانقة سريعة.
تتحرك السيارة شيئا فشيئا والأبصار تتعلق بعجلاتها, تتطلع نحوها فى سكرة من تسلب الروح من أوصاله, وانطلقت الدموع التى طالما صبرت على تحجرها الطويل, واقسمت البنات على عدم زيارة المنزل الا مع عودة الحاجة فاطمة بوجهها الصبوح من الحج.
جاء يوم العودة يتوج أيام الانتظار التى لا يعرفن الى أى مدى قد طالت , جلست الحاجة عائشة محاطة بأخواتها , تهتز رؤسهن بسماع ما تقول , اهتزازا لا ينم الا عن عدم الرضا أو هو نوع من الغيرة قد تقود الى بغض كلماتها عن ابنها المقيم بالسعودية والذى بحث وفتش ونبش وأجهده البحث وأضناه التعب حتى تمكن من العثور على الأم:- بحث عنها فى كل مكان,فتأتى كلمات التعجب على ألسنة أفئدة البنات:- وهل كانت تائهه؟! تواصل حديثها دون اكتراث لما يعتمل بأزهانهن:- أحضر لها شمسية تقيها الحر و دعاها على الغداء, هل تعرفن ماذا كان الغداء؟ خرج الجواب فى صور من الكتمان والهمس واللمز:- لا نريد أن نعرف.:- لحم دجاج, أكرمها . قال لها أنه لن يتمكن من وداعها لأنه مشغول جدا. ارتفع صوت اختها الصغرى بكلمات يغزوها البكاء:- سمعنا هذا كثيرا حفظناه عن ظهر قلب.
امتلأ المكان بالنحيب والبكاء , لا يعرفن لماذا يبكين. هل طالت فترة فقدانهن للأم الحنون؟ أم أن الشوق والحنين لرؤيتها؟ أم كان من كثرة حديث الحاجة عائشة التى ما تنهى حكاية الا وتبدأ قصة أخرى.
ورغم انتشار الصمت بأرجاء المكان الا أنه كان صمتا ظاهريا فقط, كانت المعارك الداخلية مستعرة,عكفت كل واحدة على التفكيرمتعدد الأركان ... ماذا ستجلب الأم من هدايا
ظ وهل الهدايا مختلفة ام متشابهة؟ وهل أحضرت قطعة القماش التى أوصتها؟والشال ؟ والمسبحة؟ أنبوبة المرهم..................
هذا الصراع الذى يموج بداخلهنلا يدنو قوة من صراع يدوى داخل الحاجة عائشة, هى أولا تريد هدية, لكنها ليست كل شئ . كان لزاما عليها كقائد أن تفكر فيما ستقوله لأمها عما فاتها فى رحلتها , بل تظهر تفةقها بأنها شاهدت ما لم تشاهده الأم .
بين هذه الصراعات الملتهبة والثورات البركانية المشتعلة فى باطن كل نفس, جاءت البشرى بوصول السيارة,لكن ثمة شئ أخمد الصراعات وأطفأ الثورات وأرهص المعارك بل وجعل القلوب تدق بسرعة فاقت عجلات السيارة, الأم ليس لها وجود , نعم, توفيت بجوار قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم- .
استقبلت الأرض تلك الأجساد الملقاة عليها حزنا من هول الصاعقة, انطلقت الكلمات كالرصاص الذى أجهض كل فكرة حملتها عقولهن:-أين الأم؟ لا نريد أى شئ. نريد أمنا .
انزوت الحاجة عائشة بعيدا , افترشت جانبا من الأرض, تهزى بكلمات لا يدرك مدلولاتها غيرها:-ماتت؟ هناك؟ تبسم لها القدر, هى الأفضل ... هى الأفضل دائما.
موضوع: هى الأفضل ( قصة قصيرة ) 
الجمعة 08 أغسطس 2008, 13:25
