بذور الخوف ( قصة قصيرة )

:- لا تقربوا هذه الشجرة
ذكرتنى هذه الكلمات بصدر طفولتى الجريئة. نفس الكلمات الواهنة الخارجة من نفس النافذة الخالية تقريبا من الأسنان . :- لا تقربوا هذا البئر.
لم تختلف الكلمات كثيرا عندى انا على الأقل, كنت أستفسر بطبيعتى الفضولية , وكانت تجيب بطريقة مبهمة تشبه طريقة مدرس التاريخ الذى مللنا قصصه وحكاياته
:- هنالك يكمن الخطر
:- وما الخطر؟!
:- الخوف
أحيانا كنت أمتص هذه الكلمات دون أى سؤال أو طلب للتفسير, لكنها كثيرا ما كانت تحذرنا وتزيد من تحذيرنا من الاقتراب من تلك البئر القابعة بين قريتنا و القرية المجاورة الحاضنة لمدرستنا.
تقشعر ابداننا عندما نسمع ما حدث لشوقى بن جليلة حين كان طفلا, دفعه حب الاستطلاع الى معرفة ما فى هذه البئر ولم نعرف ما حدث له سوى أنه يهاب النملة الزاحفة على الأرض.
يزيدنا رهبا ما ترويه لنا عن نعمان الشايب وكيف تحول شعر رأسه الى اللون الأبيض حين فكر فى الاقتراب من تلك البئر.
تجذبنا تلك الندوة التى كانت تعقد كل ليلة فى صالون الأسطى سيد حلاق القرية , ويشدنا كل من يهوى بفأسه كى يصيب رأيا راجحا مقنعا فى أمر بئر الخوف كما أسموها . فيبدأ الشيخ اسماعيل مستفتحا متشبثا بأفكاره جازما بأن:- هذه البئر حتما يسكنها جن أحمر يهودى يحذرنا من الاقتراب من مسكنه ويتوعد أى محاولة لتهديد أمنه.
و يدخل الحاج عبد النبى فى الحديث وكأنه لم يسمع ما قيل فيحاول اقناع الحضور برأيه :- ان الانجليز قد زرعوا فيها ألغاما تنذر بالخطر فى كل لحظة.
حتى الأستاذ حمدان مدرس مادة العلوم بمدرستنا يتطرق على استحياء فى شرح نظريته التى اكتشفها وكأنه نيوتن الذى كنا نسمع عنه كثيرا:- على ما يبدو أنه يوجد بها مواد اشعاعية تخرج اشعاعات تؤثر على من حولها وتصيبهم بالرهبة والخوف والفزع.
و يأتى دور الأسطى سيد الحلاق ليقص علبنا حكايته مع هذه البئر:- أثناء رحلة عملى الأسبوعية للقرية المجاورة وقت القيلولة بحرارته التى لا تطاق فجأة أحسست بأن جسمى يهطل عرقا وأصواتا مختلفة تدخل أذنى وحرارة شديدة تصيب ظهرى , فشرعت فى العدو حتى وصلت القرية ووقعت مغشيا على , وحملونى الى مستشفى المركز , ومن يومها أكاد أخاف من ملابسى.
كنا نتضاحك لطريقته الغريبة التى كان يسرد بها قصصه غير المتشابهه دائما , وتداخل الكلمات الخارجة من تحت أسنانه القابضة على الفتلة مع صوت اقتلاع الشعيرات الصغيرة من وجه الزبون, زتركه وجه الزبون مغطى بالصابون حتى يجف.
تتزايد ضحكاتنا مع تأوه الزبون حين يسهو المقص ويجنح الى مناطق مؤلمة , تتعالى الضحكات لحظة رؤيتنا للزبون خارجا من تحت يديه وقد زرع وجهه بالقطن المبلل بالكحول , وتأخذنا الشفقة عندما نرى نظرات الخوف التى بدت على وجه الحاج عبد النبى عندما أشار اليه الأسطى سيد الحلاق بأنه التالى.
كانت كثرة القصص والحكايات التى نسجت حول هذه البئر دافعا قويا لنا كأطفال كى نحلم ونتخيل مدى قوة هذا الوحش , وكان لزاما علينا تحمل واجب الطاعة لآبائنا وأولى أمرنا , فلا نقترب من البئر , ولا ننظر ناحيتها, ولا حتى نفكر فيها.
ولكن جذبنا حب الاستطلاع الكامن خلف طبيعتنا الطفولية , ولأننا لم نجد أى مبرر لهذا الخوف من تلك البئر التى نجهلها ونجهل ما بها , فلقد دفعتنا الشجاعة المتوارية خلف قناع الخوف الى الاقتراب منها. كنا ندنو شيئا فشيئا حتى وردنا بئر الخوف . رجعنا مسرعين يملأ الخوف أمعاءنا , ليس خوفا من البئر , ولكنه خوف من معرفة أهالى القرية , وما يترتب على ذلك من عواقب.
تعودنا اللعب حول البئر بعد كل عودة من المدرسة . ذات يوم وبينما نلهو ونلعب تسمرت أقدامنا جميعا ورددنا هذا السؤال:- لماذا لا نردم هذه البئر؟؟؟
كانت الاجابة فعلية بكل ما نملك من قوى صغيرة تحلم بتحطيم هذه الخرافة وتتمنى اقتلاع ما زرعته فى نفوسنا , عزمنا على غرس شجرة مكان البئر تشهد على ما فعلناه ببئر الخوف التى كانت.
بعد كل هذه السنوات من الغربة أعود وأجد نفس الكلمات :- لا تقربوا هذه الشجرة.
جمعت الأطفال لأقص عليهم ما فعلناه بهذه البئر وأخبرتهم بأننا زرعنا هذه الشجرو . فقالوا جميعا فى صوت واحد :- ونحن قطعنا هذه الشجرة.