من أسرار القرآن
بقلم: د. زغلـول النجـار
261ـ ب ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون** إبراهيم:37*
سبق لنا استعراض سورة ابراهيم, وماجاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي ومضة من ومضات الإعجاز العلمي والتاريخي في الآية السابعة والثلاثين من هذه السورة المباركة.
من الإشارات العلمية والتاريخية في الآية الكريمة
أولا: في قوله تعالي: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم
في هذه الدعوة المخلصة التي أطلقها نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ إشارة الي أن بعضا فقط من ذريته هم الذين أسكنوا في مكة المكرمة وهم ولده إسماعيل ـ عليه السلام ـ وذريته التي جاء منها خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله النبي العربي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.. وكان الله ـ تعالي ـ قد أمر نبيه ابراهيم بوضع زوجه هاجر ورضيعها اسماعيل عند مكان البيت الحرام الذي كان قد تهدم, وبقيت قواعده, فجاء بهما ابراهيم ـ عليه السلام ـ من بلاد الشام الي مكة المكرمة, وأسكنهما في هذا الوادي غير ذي الزرع, انصياعا لأمر الله ـ تعالي ـ, ولم يكن بمكة يومئذ أنيس من الناس, ولا ماء للشرب, ولازراعة ولا نبت إلا بعض الأشجار الشوكية. فترك لهما ابراهيم جرابا فيه شئ من التمر, وسقاء به قدر من الماء, ثم قفل راجعا في طريقه الي بلاد الشام, فتبعته السيدة هاجر وهي تقول: يا إبراهيم: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا ماء, ولا شيء؟
ورددت مقولتها هذه مرارا, وهو يلتفت إليها, ولعلمها أنه نبي مرسل قالت له: آلله أمرك بهذا؟ فأدار وجهه وأجابها بنعم, وانطلاقا من إيمانها الفطري العميق بالله ـ تعالي ـ قالت: إذن لايضيعنا, ثم رجعت الي رضيعها, وهي مطمئنة القلب, طيبة النفس, راضية بقدر الله ـ تعالي ـ واثقة في عظيم رحمته. وانطلق نبي الله إبراهيم حتي إذا كان عند الثنية( المنعطف) من وادي مكة استقبل بوجهه مكان البيت الحرام ورفع يديه الي السماء داعيا بهذا الدعاء الكريم الذي سجلته الآيتان رقم(38,37) من سورة ابراهيم.
ثم لم يلبث ماعند أم إسماعيل من ماء أن نفد, وعطشت هي ورضيعها, فانطلقت تجري حتي قامت علي أقرب جبل منها وهو الصفا لتنظر من فوقه هل تري أحدا قادما, أو طيرا حافا بشيء من الماء, ثم هبطت وسعت سعي المجهود حتي أتت المروة فقامت عليها, فلم تر قادما, وفعلت ذلك سبع مرات, وتعظيما لهذا الموقف الكريم كانت فريضة السعي بين الصفا والمروة علي كل حاج ومعتمر.
وبنهاية الشوط السابع أرسل الله ـ تعالي ـ اليها جبريل ـ عليه السلام ـ مطمئنا ومستجيبا لطلبها الماء, فضرب الأرض بجناحه أو بعقبه فتفجرت عين زمزم, وفار منها الماء, وفرحت السيدة هاجر بذلك فرحا شديدا, وجعلت تملأ السقاء بالماء, وتزم رأس العين حتي لايتسرب ماؤها في أرض وادي مكة, ومن هنا سميت باسم زمزم, فقال لها جبريل ـ عليه السلام ـ: لاتخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله, يبنيه هذا الغلام وأبوه, وإن الله لايضيع أهله( رواه البخاري في صحيحه).
ومع فوران عين زمزم فاضت مياهها في الوادي, وجاءتها الطيور من كل صوب وحدب معلنة عن وجود الماء.
وبينما أم اسماعيل ورضيعها في هذه الحال مر بالمنطقة ركب من قبيلة جرهم قادمين من الشام بتجارة لهم, وهم في طريقهم الي اليمن, فرأوا طيورا تحوم حول وادي مكة فأدركوا أن عينا من الماء قد تفجرت فيه, فأسرعوا الخطي إلي محط الطيور, واستأذنوا أم إسماعيل بالنزول علي الماء فأذنت لهم, وبعثوا الي اليمن من أتاهم بأهلهم إلي وادي مكة الذي أصبح مقصدا للكثيرين بعد أن شاع خبر تفجر ماء زمزم فيه, وتكاثر الناس في هذا الوادي وشعابه استجابة لدعوة نبي الله ابراهيم ـ عليه السلام.
وبعد أن بلغ إسماعيل أشده تزوج من قبيلة جرهم زيجتين, إحداهما بعد الأخري. ثم جاء أمر الله ـ تعالي ـ برفع القواعد من البيت, فعاد ابراهيم الي مكة المكرمة وتعاون مع ولده إسماعيل علي إعادة بناء الكعبة المشرفة ورفعها من قواعدها, ولما تم لهما ذلك رجع إبراهيم الي أرض فلسطين المباركة, تاركا ولده اسماعيل يرعي بيت الله, حتي أمره الله ـ تعالي ـ بدعوة قومه الي دين الله, وهو الإسلام العظيم الذي بعث به جميع أنبياء الله ورسله من قبل ومن بعد الي بعثة النبي والرسول الخاتم ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي أنبياء الله ورسله أجمعين.
وعاش أهل هذه البلاد علي التوحيد حتي جاءهم أحد شياطين الإنس وكان يدعي عمرو بن لحي الخزاعي الذي أضلهم بعبادة الاصنام التي كان قد جلبها إليهم من بلاد الشام. وكأي دعوة باطلة انتشرت عبادة الاصنام والأوثان, وعبادة النجوم والكواكب, وعبادة غيرها من الوثنيات المبتدعة انتشارا واسعا في جزيرة العرب ونسيت دعوة كل من إبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ وإن بقيت قلة نادرة من حنفاء العرب يذكرونها, ولايستطيعون الدعوة إليها وسط ركام الوثنيات المبتدعة.
وهنا قد يتصور البعض أن الله ـ تعالي ـ قد أمر ابراهيم ـ عليه السلام ـ بوضع زوجته هاجر ورضيعها إسماعيل عند البيت الحرام لكي يعيدا بناءه من القواعد بعد أن يبلغ اسماعيل أشده, وهذا صحيح, ولكن نضيف الي ذلك أن من أهداف هذه الغربة أن يأتي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ من نسل نبي الله إسماعيل ـ عليه السلام ـ فيولد بمكة المكرمة أشرف بقاع الأرض علي الإطلاق ـ تلك البقعة المباركة التي خلقها الله ـ تعالي ـ أول ماخلق من اليابسة, وأمر ملائكته ببناء أول بيت وضع للناس فيها استعدادا لمقدم أبينا آدم ـ عليه السلام بها, فيلتقي أول النبوة بخاتمها, تأكيدا علي وحدة رسالة السماء, وعلي الأخوة بين الأنبياء وبين الناس جميعا, وتأكيدا كذلك علي وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ ولذلك أجري الله ـ تعالي ـ علي لسان نبيه إبراهيم قوله:
(ربنا إني أسكنت من ذريتي..) ولم يقل إني أسكنت ابني أو ولدي.
ومن الدقة العلمية المطلقة التي يتميز بها القرآن الكريم ما جاء في هذا النص القرآني من قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ
بواد غير ذي زرع) ولم يقل( بواد غير ذي نبت) وذلك لأن الزرع لا يتحقق إلا في الأماكن الآهلة بالسكان, ومنهم من يقوم بالزراعة إذا توافرت شروطها من التربة الصالحة والماء, والنبات كلمة عامة تشمل كل ما تنبته الأرض بالفطرة أو بالزراعة, ولما لم يكن في وادي مكة, أي ساكن ساعة أن وضع نبي الله إبراهيم زوجه أم إسماعيل ورضيعها عند قواعد الكعبة المشرفة فقد انتفت إمكانية وجود أية زراعة بها نفيا قاطعا ولذلك قال ـ تعالي ـ علي لسان نبيه إبراهيم:
(رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع...*).
ووادي مكة حينئذ لم يكن به إلا بعض أشجار من السلم, والسمر, والروح, وهي من الأشجار الشوكية التي لا تصلح إلا للوقود..
وفي قوله ـ تعالي ـ
... عند بيتك المحرم...*) تأكيد علي قدم هذا البيت وحرمته انطلاقا من قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين*)( آل عمران:96).
وانطلاقا من أقوال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ العديدة والتي منها:
(1) كانت الكعبة خشعة علي الماء فدحيت منها الأرض( الهروي ـ الزمخشري)
(2) دحيت الأرض من مكة, فمدها الله ـ تعالي ـ من تحتها فسميت أم القري( مسند الإمام أحمد305/4.
ويأتي العلم المكتسب ليؤكد هذه الحقيقة في أواخر القرن العشرين, كما يؤكد قول كل من ابن عباس وابن قتيبة ـ رضي الله عنا وعنهم أجمعين وعن جميع عباد الله الصالحين ـ: إن مكة المكرمة سميت باسم( أم القري) لأن الأرض دحيت من تحتها لكونها أقدم الأرض.
(3) إن مكة حرمها الله, ولم يحرمها الناس( صحيح البخاري722/1).
(4) إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض, لا يعضد شوكه. ولا ينفر صيده, ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها( صحيح البخاري, ومسند أحمد).
(5) إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض, فهي حرام بحرام الله إلي يوم القيامة( مصنف عبد الرزاق140/5)
هذه الدقة العلمية المطلقة في هذا النص القرآني الكريم من مثل
أسكنت من ذريتي),( واد غير ذي زرع)( عند بيتك المحرم) يضاف إليها إعجاز تاريخي في وصف هذه الواقعة التي كانت تفاصيلها قد محيت من ذاكرة الناس بعد مرور أكثر من ألفي سنة بين نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ( حوالي1861 ق. م. ـ1686 ق. م) وبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم(610 م ـ632 م).
ونص قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم تشهد لهذا الكتاب العزيز بأنه لايمكن ان يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية, في نفس لغة وحيه( اللغة العربية) وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق اجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام رب العالمين, وشاهدا للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة والرسالة.
ثانيا: في قوله تعالي:... ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم..*).
هذا النص القرآني الكريم يمثل دعوة أطلقها أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ فتحققت ولا تزال تتحقق إلي اليوم, وإلي ما شاء الله, فمن الثابت تاريخيا أنه لم يكن في وادي مكة ساكن واحد زمن بعثة إبرهيم ـ عليه السلام ـ واليوم وصل تعداد سكانه المقيمين قرابة مليون نسمة, ووصل أعداد الحجاج والمعتمرين إلي عشرات الملايين في كل عام. ولا تزال قلوب الملايين من المسلمين تهفو لزيارة هذه البلدة المباركة سواء استطاعوا تحقيق ذلك أو لم يستطيعوه. و(الفؤاد) هو داخل القلب أو هو قلب القلب, وجمعه( أفئدة); و(التفؤد) هو التوقد شوقا ومحبة; يقال
فأدت) اللحم أي شويته حتي تمت تسويته; ويقال: لحم( فئيد) أي: متقن الشوي إلي درجة التسوية الكاملة. والتعبير القرآني( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) أي تسرع الخطي إليهم شوقا وتلهفا وودادا; يقال
هوي)( يهوي)( هويا) إذا أسرع في السير طلبا لشيء عظيم محبوب, أو لأمر هام محبب إلي النفس.
وبالفعل استجاب الله ـ سبحانه وتعالي ـ لدعوة نبيه إبراهيم فبعد ان رفع البيت الحرام من قواعده هو وولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ وبدآ في الدعوة إلي دين الله انتشر الإسلام في جزيرة العرب وفيما حولها من بلدان, وبدأت أفئدة المسلمين تهوي إلي حج بيت الله والاعتمار به حتي تجاوزت أعدادهم اليوم عشرات الملايين في كل عام, وكانت دعوة إبراهيم ـ عليه السلام ـ
... فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم...*) بشري انتشار الإسلام بين كل أجناس الأرض وهو ما تحقق بالفعل.
ثالثا: في قوله تعالي:... وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون*):
هذا هو الجزء الثاني من دعاء نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ للبعض من ذريته الذين أسكنهم في مكة المكرمة عند بيت الله الحرام وقد استجاب الله ـ تعالي ـ لهذا الدعاء فرزق أهل هذا الوادي غير ذي الزرع ثمارا تجبي إليه من كل مكان ليكون ذلك عونا لهم علي طاعة الله, وعلي الاستمرار في إعمار بيته الحرام, وخدمة حجيج هذا البيت والمعتمرين به. وكانت هذه الثمار تأتي في القديم من كل من بلاد الشام والهند والصين في رحلات متباعدة تحقيقا لقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ:
... أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون*
( القصص:57).
أما اليوم فيؤتي بالأرزاق إلي مكة المكرمة وإلي الجزيرة العربية كلها من جميع بقاع الأرض, حتي لتجتمع فيها ثمرات الدنيا كلها علي مدار فصول السنة دون انقطاع.
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمدلله علي بعثة النبي العدنان الذي ختم الله ـ تعالي ـ ببعثته الشريفة كل النبوات, وبرسالته الخاتمة كل الرسالات السماوية, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.